الرّق والأخلاء الثلاثة

-A A +A
اثنين, 2020-10-26 06:48
الدكتور سيدي عبد القادر ولد أطفيل

رأيٌ في موضوع الرّق وخليل المالكي المصري والخليل النحوي والخليل الطيب الموريتانيَيْنِ المتداول هذه الأيام على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي:

  أولا: مشكلة الرّق مشكلة عالمية تاريخية قديمة قبل خليل المالكي بل قبل الاسلام وأسوأ فصولها فصل الغرب إبان الحقبة الاستعمارية وأقبح آثارها اليوم في الغرب نفسه لا سيما في الدول التي تدعي الديمقراطية كالولايات المتحدة الامريكية وما الأحداث العنصرية القديمة فيها والحديثة ضد السود بمجهولة.    ثانيا : مختصر خليل كغيره من كتب الفقه ليس فيه ما يدعو للاسترقاق فليس فيه للعبودية باب بل أبوابه المتعلقة بهذا الموضوع مفتّحة كلها للحرية شأنه في ذلك شأن كتب الفقه الاخرى لأنها مستمدة من الكتاب الذي هو المصدر الأول في الشريعة ومن السنة التي هي المصدر الثاني فيها وإنما جاء الاسلام لتحرير الناس من العبودية لغيرالله.   ولذلك فتح أبوابا كثيرة للتخلص من هذه الظاهرة التي وجدها قائمة ورغَّب في العتق وجعله من أفضل الاعمال ولو عمل الناس عبر العصور بما جاء من ذلك لم يبق في بلاد الاسلام رقيق .  وذلك هو الأصل المناسب لكرامة الإنسان وإنسانيته وقد اشتهرت قولة عمر الفاروق -رضي الله عنه- "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"   ثالثا: العبودية في الإسلام ليست مثل العبودية في الجاهلية أوالدول الغربية فالاسلام ريثما تحصل الحرية التي يسعى لها ويفتح أبوابها يوفر للرقيق كرامته ويحفظ له إنسانيته فيمنع أذيته بالقول أو بالفعل أو تكليفه من العمل ما لا يطيقه دون إعانته ومشاركته فيه ويمنع الاستئثار عليه بشيء من مأكل أو ملبس أو غيرهما ويجعله بعد الحرية مولى من الموالي يتوارث مع من أعتقه باعتباره عاصبا من العصبة فتبقي اللحمة بينه وبين مولاه قوية كاللحمة بين العصبة قال صلى الله عليه وسلم :" الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" وشتان بين مفهوم الرّق في الاسلام وفِي غيره.

  رابعا: العبودية عبر التاريخ غير مرتبطة باللون أو الجغرافيا عكس ما يتصوره الناس من ارتباطها بالسواد وأفريقيا فالمماليك الذين حكموا مصر وحرروا المشرق الاسلامي وأنقذوا العالم من همجية المغول بالهزيمة المنكرة في معركة عين جالوت وكانت دولتهم إحدى الدول الاسلامية المهمة- بيضٌ من آسيا لا سود من افريقيا هُيّئت لهم الظروف في ظل دولة الاسلام حتى وصلوا الى مركز القيادة فيها مما يدل على أنه لا أثر للون في المواهب البشرية ولذلك قرر الاسلام معيارًا واحدا للتفاوت والكرامة الانسانية هو التقوى قال تعالى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقال -صلى الله عليه وسلم- "لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى"   ولا يوجد معيار للتفاضل بين الناس أعدل من هذا ولا أفضل لأنه يحث على مكارم الأخلاق والتنافس في الخير والبر.

  خامسا: كل ما يكرس الطبقية ويعمق الهوة الاجماعية ولو من الناحية النفسية ينبغي للجميع أن يبتعد عنه ويعمل على خلافه مما يخفف من الطبقية ويردم الهوة الاجتماعية.   ولا يتحقق هذا الا بخطاب المجتمع خطابا واحدا يدعو للعدل وخدمة الجميع وإتاحة الفرصة للجميع في التعليم والصحة والوظيفة وكل ما يمكُّن من العيش الكريم دون إقصاء أو تهميش أو تمييز باعتبار الجميع أبناء وطن واحد متساوين في الحقوق والواجبات.  وحينئذ تذوب الفوارق الاجتماعية تلقائيا دون ضجيج أو توظيف سياسي أو خطاب عنصري ويشعر الجميع أنهم في مركب واحد ينجون فيه جميعا أو يغرقون جميعا ويكونون كما قال - صلى الله عليه وسلم- "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"و "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".

  سادسا : الفئات في المجتمع الموريتاني ليس بينها من التقاطع والتدابر ما يتصوره بعض السياسيين ويصوّرونه فلا نعلم في تاريخ البلد أنه وقع بين أبنائه نزاع عرقي أو حرب عرقية بل المعروف الانسجام والتآلف والتصاهر  بين أبنائه جميعا ولكن بعض السياسيين يخلقون العنصرية ويفرقون بين فئات المجتمع الواحد بخطاب العنصرية والكراهية ولو تركوا المجتمع وما نشأ عليه من التآخي والتآلف لكان خيرا لهم ولأبناء وطنهم جميعا.

  سابعا: المطلوب من السياسيين أن يوجهوا خطابهم إلى المشاكل الحقيقية التي يعاني منها المجتمع ويبحثوا لها عن حلول ملموسة ويضعوا لذلك برامج واضحة واقعية وخططا قريبة ومتوسطة وبعيدة تلبي الحاجات الضرورية للمجتمع بكل فئاته من صحة وتعليم وتوظيف وبنية تحتية بخلق مؤسسات حقيقية تخدم المجتمع وتسعى لتطويره وإخراجه من دائرة التخلف والحلول الفاشلة التي تعاقبت عليها أنظمة وضاعت بها أجيال وتكون الأولوية في ذلك للفئات الهشة والأماكن النائية فلا شك أن فئات من المجتمع أشد هشاشة وأظهر فقرا وإن كان ذلك ظاهرا في الفئات كلها .

  ثامنا: لعل الفئة التي توصف الآن بالهشاشة والتأثر بالإرث التاريخي (لحراطين) هي الفئة الأكثر وطنية وأصلح بقاء وأقل فسادا في المجتمع  فهي أقل هجرة لقلة جشعها ورضاها بالقليل والمتاح من العيش ومظفوها أنظف يدا وأقل كبرا وبطرا وترفا وأقرب من المواطنين ونساؤها أكثر واقعية وعفة وانسجاما داخل الأسرة وقياما بالواجب في البيت وأبناؤها أشد إقبالا على الدين وتعلم القرآن وقد صار في المجتمع اليوم منهم علماء وقراء ودعاة ومصلحون .  وقد قال تعالى : (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) وقال -صلى الله عليه وسلم-"إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" .  ومعلوم أن الموالي والمستعربين لما أقبلوا على الدين والعلم في صدر الاسلام كان العلماء فيهم أكثر من  غيرهم حتى كان خمسة من القرّاء السبعة من الموالي فلا خوف على هؤلاء من المستقبل بل الخوف على غيرهم ممن بدّلوا وغيروا.    تاسعا: ماذا تستفيد الفئات الهشة وماذا تستفيد اللحمة الاجتماعية من حذف أبواب من الفقه أو الفقه كله؟   مشكلة المجتمع كله مشكلة اقتصاد وغياب عدالة يعاني منهما المجتمع كله وإن كانت وطأتهما أشد على بعض الفئات بلا ريب ومعالجة ذلك تكون بما ذكرنا جملة لا تقسيطا أعني حلا شاملا للمجتمع كله بوضع خطة شاملة تراعي الاولويات وتستوعب الجميع دون تقريب فئة معينة أو إقصاء فئة معينة بل يكون المقصود خدمة المجتمع كله مع الاهتمام أكثر بالطبقة الهشة من الفئات كلها .    عاشرا: ما أثر المصاهرة بين فئات المجتمع على المشاكل التي يعاني منها بسبب أوضاعه الاقتصادية وغياب العدالة الاجتماعية فهل إذا تزوج فقير أو جاهل من فئة بفقيرة أو جاهلة من فئة أخرى يصبحان غنيين أو عالمين؟   إن التزاوج بين فئات المجتمع حاصل ولا يُدعَى إلى تحصيل حاصل وهو رغبة شخصية وخصوصية فردية لا يفرضها المجتمع ولا الشرائع ولا القوانين وهوالآن بعد سيطرة المادة على المجتمع أصبح بين الطبقة المالية أكثر منه بين الفئة الاجتماعية فأهل الترف والثراء يرغبون في مثلهم بغض النظر عن الفئة ولسان حالهم يقول:( فاظفر بذات المال تربت يداك).

  أحد عشر:  أرجو ألا يكون هَمُّ بعض سياسيينا إلهاء الشعب وشغله بما لا طائل تحته ومن لم يجد ما يقدمه لشعبه غير خطاب الفئوية والعنصرية فصمته خير من قوله وقد قال -صلى الله عليه وسلم- " من كان يُؤْمِن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".  وقد كان خطاب معالي وزير التعليم العالي الدكتور  سيدي ولد سالم في مهرجان حاشد بانواذيبُ 2018 أكثر توفيقا من قول هؤلاء.  كان خطابا تاريخيا منصفا تناول هذه القضية برؤية واضحة ومعرفة تامة بالمشكلة وكيفية التعاطي معها وفق المنظور الاسلامي والوطني ويمكن الاطلاع عليه .والله الهادي الموفق الى سواء السبيل المؤلف بين القلوب العزيز الحكيم.       الدكتور سيدي عبد القادر