حفظ القرآن والتفوق الدراسي... علاقة تستحق التأمل!

اثنين, 2025-08-04 17:33

في العام 2023، وأنا أتابع نتائج الباكالوريا على المستوى الوطني، لفت انتباهي أن نسبة معتبرة من التلاميذ المتفوقين في الباكالوريا كانوا من حفاظ القرآن، ونفس الشيء لاحظته أيضًا على مستوى نتائج البكالوريا في نفس العام في بعض الدول الشقيقة، كالجزائر وتونس والمغرب ومصر.

فهل تكرار تفوق التلاميذ حفاظ القرآن في الباكالوريا كان مجرد صدفة؟ أم أن هناك علاقة ما تربط بين حفظ القرآن والتفوق الدراسي؟

حفظ القرآن قاسم مشترك بين العديد من المتفوقينإليكم بعض النماذج التي جمعتها من نتائج باكالوريا 2023، وهي تدعم فكرة وجود علاقة بين حفظ القرآن والتفوق الدراسي.

في بلادنا، احتل التلميذ محمد المصطفى سيدي محمد النابغة (شعبة العلوم الطبيعية) الرتبة الأولى وطنيًا في ذلك العام، وبمعدل 17.02، وهو من حفاظ القرآن الكريم.

وتصدرت التلميذة فاطمة صمب أعليوات، في نفس العام، الرتبة الأولى وطنيا في شعبة الآداب الأصلية، وهي حافظة لكتاب الله.

كما تصدر التلميذ محمد الأمين سيدي المختار حني النتائج في شعبة العلوم الطبيعية على مستوى ولاية الحوض الغربي، وهو حافظ للقرآن أيضًا.

وفي تونس، وفي نفس العام، أحرز التلميذ عبد الرحمن بن احميدان المرتبة الأولى وطنيا في شعبة الرياضيات بمعدل 19.75، وهو الحاصل على جائزة "أصغر حافظ للقرآن في تونس" سنة 2016، مما يؤكد ارتباطه بالقرآن في وقت مبكر من حياته.

كما حصد مهتدى باش طبجي الرتبة الأولى في شعبة العلوم التقنية في نفس العام بمعدل 19.61، وهو حافظ للقرآن، ويؤم المصلين في صلاة التراويح في مسجد حيه.وحصدت التلميذة أميمة أيعيش الرتبة الأولى في شعبة الرياضيات بولاية المهدية بمعدل 19.20، وهي حافظة للقرآن كذلك.

وفي الجزائر، احتل التلميذ بلقداش محمد الأمين الرتبة الأولى في كل الشعب على المستوى الوطني بمعدل 19.50 (شعبة العلوم التجريبية)، وقد حصل سابقًا على الجائزة الأولى في حفظ القرآن على مستوى ولايته.

وفي المغرب، حصل التلميذ أنس أرفاك على الرتبة الأولى على مستوى جهة سوس ماسة، بمعدل 19.33، وهو كذلك من حفاظ القرآن الكريم.

وفي مصر احتل عمر عبد الرحمن المركز الأول في الثانوية العامة في العام 2023 على مستوى الجمهورية، وقد قال في مقابلة أجريت معه بأنه نال ذلك المركز بفضل حفظ القرآن الكريم، ودعاء الوالدين.

وماذا عن باكالوريا 2025؟رغم ضيق الوقت هذا العام، وتعدد الانشغالات، فقد تابعتُ على السريع بعض نتائج الباكالوريا للعام 2025، فوجدت أن هذا القاسم المشترك لا يزال قائمًا.

في الجزائر، أحرزت التلميذة رونق زاني، ذات الثمانية عشر ربيعًا، من شعبة الهندسة الميكانيكية، المرتبة الأولى على مستوى كل الشعب في الجزائر، وذلك بمعدل 19.70، وهي حافظة للقرآن.

وفي مصر تم تداول صور عمر سعد الحاصل على المركز الأول في الثانوية العامة في العام  2025 على مستوى جمهورية مصر، وهو يحتفل بتفوقه، ممسكا بالمصحف الشريف، ومؤكدا بأن القرآن هو سر تفوقه، وكانت جائزته عمرة تعهد له بها والده.

 وفي موريتانيا، أحرز التلميذ أحمد الإمام ولد مولاي العباس الرتبة الأولى وطنيا في شعبة الرياضيات بمعدل 17.43، وهو حافظ للقرآن، وقد تلقى خبر تفوقه وهو رفقة والده في المحظرة يدرس "لامية الأفعال".

كما حصد التلميذ أحمد سيدي محمد حيبل الرتبة الأولى وطنيا في شعبة الآداب الأصلية بمعدل 16.67، وهو من حفاظ القرآن الكريم كذلك.ومن المؤكد أن المزيد من البحث المتأني في النتائج سيُظهر أمثلة أخرى من حفاظ القرآن المتفوقين في الباكالوريا هذا العام.

القاسم المشترك الثاني: الأسرة المربية إذا كان حفظ القرآن يشكّل القاسم المشترك الأول بين كثير من المتفوقين، فإن الأسرة المربية الصالحة تمثل القاسم المشترك الثاني بين المتفوقين.

فوراء كل تلميذ متفوق أسرة عظيمة، أسرة واعية، صابرة، داعمة، عرفت كيف تزرع القيم، وتنمّي الطموح لدى أبنائها، عرفت كيف تبذر البذرة حتى تثمر.ولعل أوضح مثال على ذلك، أسرة التلميذة فاطمة، الأولى وطنيًا في شعبة الآداب الأصلية في العام 2023.

فهذه التلميذة المتفوقة وُلدت في أسرة فقيرة، تسكن بقرية نائية، ولكن تلك الأسرة الفقيرة كانت أسرة استثنائية بحق.ولو لم تكن كذلك، لكان مصير الطفلة فاطمة لا يختلف عن مصير غيرها من بنات العائلات الفقيرة في القرى والأرياف.

فكان من المحتمل جدًا أن لا تُحظى فاطمة بدخول المدرسة أصلًا، وكان من المحتمل أن يدفع بها والدها إلى العمل المبكر لمساعدته في أعباء الحياة، فتكون صاحبة "طابلة" تبيع للتلاميذ الحلوى أمام مدرسة قريتها، وتسأل نفسها في كل يوم: لماذا يدرس من هو في سنها في المدرسة، وتُحرم هي من الدراسة؟

حتى وإن افترضنا أن والدها سمح لها في طفولتها بالدراسة، فالراجح أنه كان سيسحبها من المدرسة بعد الحادث الذي تعرض له وجعل منه مقعدًا، لتعينه في تحمل نفقات الأسرة.

وبذلك يكون مصير التلميذة فاطمة لا يختلف عن مصير آلاف، بل وعشرات آلاف الفتيات المتسربات من المدرسة.مقترحات عملية لخلق جيل شبابي يجمع بين حفظ القرآن والتفوق الدراسي

1. إطلاق جوائز للمتفوقين في الامتحانات الوطنية الذين جمعوا بين حفظ القرآن والتفوق الدراسي. ويمكن أن تتكفل وزارة الشؤون الإسلامية بهذه الجوائز، أو هيئة علماء موريتانيا، أو قناة المحظرة.

2. تكريم الأسر المتميزة تربويا:إن وراء كل طفل من أطفال الشوارع يمارس الإجراام ويتعاطى المخد رات، أسرة فاشلة. وفي المقابل، فإن وراء كل طفل متفوق دراسيا، له حظ من القرآن، أسرة ناجحة، بل أسرة عظيمة.

ولذا، فإني أعيد اقتراح إطلاق برنامج أسبوعي يمتد على مدار العام، تُستضاف فيه إحدى أسر المتفوقين في الباكالوريا.

فبرنامج من هذا النوع لن يقتصر دوره على التكريم الإعلامي للأسر التي ربّت فأحسنت التربية، وإنما – إضافة إلى ذلك – سيرسّخ الاهتمام بالأسرة ويبرز دورها الحاسم في تنشئة الأجيال.هذا البرنامج التلفزيوني يمكن أن تتولى إطلاقه قناة الأسرة.

3. إبراز النماذج الشبابية الناجحة إعلاميا: نحتاج كذلك إلى برامج تلفزيونية شبابية، وإلى برامج خفيفة في مواقع التواصل الاجتماعي تستعرض قصص النجاح الشبابية التي جمع أصحابها بين حفظ القرآن والتميّز في الدراسة، أو الرياضة، أو العمل، أو غير ذلك.

فتقديم مثل هذه النماذج الشبابية كقدوات أصبح من الأمور البالغة الأهمية، خاصة في هذا الزمن الذي لا تقدم فيه مواقع التواصل الاجتماعي غير التافهين والسطحيين والفاشلين باعتبارهم قدوات للشباب تستحق أن تُقلَّد في تفاهتها وسطـحيتها وفشلها.

4. تشجيع البحث العلمي حول العلاقة بين حفظ القرآن والتفوق الدراسي، وفي هذا الإطار فإني أدعو الباحثين والدعاة وكل المهتمين بقضايا الشباب، إلى العمل لإنجاز بحوث ودراسات ميدانية معمقة حول العلاقة بين حفظ القرآن والتفوق الدراسي.

كما أقترح من جهة أخرى إجراء بحوث حول دور اللغة الأم في التفوق، فقد لاحظت أن أغلب المتفوقين في الباكالوريا يحصلون على درجات مرتفعة في مادة اللغة العربية، بينما تكون درجاتهم أقل في الفرنسية، وهذا مما يستحق التأمل والدراسة.

ختامًا ليست العلاقة بين حفظ القرآن والتفوق الدراسي ـ فيما يظهر من نتائج المسابقات والامتحانات الوطنية ـ بالحالة النادرة، بل هي ظاهرة متكررة تستحق التأمل والدراسة.فالقرآن نور وهداية، وهو يُربِّي على الانضباط والصبر والاستقامة، وكل تلك الصفات تُعدّ من مفاتيح النجاح في أي مجال من مجالات الحياة.

فليكن حفظ القرآن توجّها ثابتا لدى الأسر والمجتمع، فبذلك سنخلق جيلا شبابيا، يجمع بين الدين والعلم، بين التفوق الدراسي والسلوك الراقي، لا يتأثر بما تعجّ به مواقع التواصل الاجتماعي من ميوعة وتفاهة وابتذال.

حفظ الله شباب موريتانيا.

محمد الأمين الفاضل

 [email protected]