
عندما نتحدث عن حوادث السير في بلادنا، فإن أول ما سيخطر ببالنا هو الطريق المتهالك والسائق المتهور. في هذا المقال سنتحدث عن تنافس محاور شبكتنا الطرقية في القتل، وسنتحدث كذلك عن غياب التنافس لدى السائقين للحد من الضحايا في حرب الشوارع المشتعلة باستمرار على شبكتنا الطرقية.
أي محاور شبكتنا الطرقية أكثر دموية؟
إن المتابع لحوادث السير في بلادنا، خلال السنوات الماضية، وخاصة في أيامنا هذه، سيظن أن محاور شبكتنا الطرقية قد دخلت منذ شهر في سباق محموم وتنافس دموي غير مسبوق لتسجيل أكبر عدد من حوادث السير القاسية والمؤلمة.
ولأن طريق الأمل، وتحديدا مقطع (نواكشوط – بوتلميت)، لا يمكن أن تنتزع منه صدارة مجازر الطرق، فقد أيقظنا هذا المقطع ذات صباح أحد حزين (20 يوليو 2025) على فاجعة أليمة، وكثيرا ما أيقظنا صباحا على فاجعة أليمة، أو حرمنا ليلا من النوم بسبب فاجعة ليلية أكثر إيلاما. أيقظنا هذا المقطع في صباح ذلك اليوم على واحدة من فواجعه الأليمة، تمثلت في اشتعال سيارة صغيرة على أسرة كاملة من ستة أشخاص، توفوا جميعا على الفور. وما كاد طريق نواذيبو يعلم بتلك الفاجعة، حتى بادر بتكرارها بعد ثلاثة أيام فقط، وبالسيناريو نفسه تقريبا، فكان عدد المتوفين ستة أشخاص، وكانوا أيضا من أسرة واحدة.
الغريب في الأمر، أنه عندما أضاف طريق الأمل لفاجعة يوم الأحد حادث سير آخر أدى إلى وفاة شخص، ليصل المجموع الكلي في ذلك اليوم إلى سبع وفيات، تكرر على طريق نواذيبو الأمر نفسه، فشهد هذا الطريق حادث سير آخر، أدى بدوره إلى وفاة شخص آخر، ليكون عدد الوفيات على طريق نواذيبو في ذلك اليوم سبعة أشخاص!
ومع أن طريق نواذيبو قد لا يتمكن من تسجيل أعداد ضحايا، بحجم أعداد ضحايا طريق الأمل، إلا أنه مع ذلك سيبقى منافسا قويا وشرسا له في سباق الموت، وخاصة على مستوى عدد الضحايا ونوعية الحوادث.
مساء السبت الماضي (23 أغسطس 2025)، وفي محاولة جديدة من طريق أكجوجت لدخول حلبة التنافس، أطل علينا هذا الطريق بفاجعة أليمة، زاد من ألمها وقسوتها أن الضحايا هذه المرة كانوا أطفالا، نعم أطفالا، توفي أحدهم فورا، وأصيب آخرون بجروح متفاوتة الخطورة. ولما علم طريق روصو بتلك الفاجعة، سارع هو بدوره لإثبات جاهزيته لدخول حلبة المنافسة في حوادث السير، فكان أن ذكّرنا بجاهزيته من خلال حادث سُجِّلَ صباح (الأحد 24 أغسطس) عند الكيلومتر 54، أصيب فيه سبعة أشخاص بجروح.
وفي ليلة ذلك اليوم، وحتى يؤكد طريق الأمل أنه سيبقى محتلا دائما للصدارة، سُجِّل على هذا الطريق، في المقطع الواقع شرق مدينة كيفة، وتحديدا عند الكيلومتر 40، حادث سير جديد ناتج عن انقلاب شاحنة، أدى إلى حالة وفاة وعدة إصابات.
هذا الحادث لم يُنشر عنه خبر، وكثيرًا ما تقع حوادث سير دون أن ينشر عنها أي خبر، فحتى الآن لا توجد جهة رسمية أو غير رسمية تتابع إحصائيات الحوادث وتنشر عنها بشكل مستمر.
بالطبع، لم يغب طريق ازويرات عن المنافسة، وما كان لهذا الطريق أن يغيب، حيث أطل علينا في يوم الاثنين (25 أغسطس) بفاجعة أكثر إيلاما، تتعلق هذه المرة بوفاة شقيقين من أسرة واحدة، وإصابة ثالث من الأسرة نفسها، في حادث سير أليم تعرضت له سيارة كانت تقل الإخوة الثلاثة برفقة جنازة أخيهم المتوفى.ثلاثة إخوة تعرضوا لحادث سير أليم، وهم ينقلون جنازة أخيهم لدفنها، حتى الأموات لم يسلموا من حوادث السير على هذا الطريق. وحتى تبقى طرق وشوارع تيرس الزمور منافسة قوية في حرب الشوارع المستمرة على شبكتنا الطرقية، فقد علمتُ - وأنا على وشك نشر هذا المقال - بحادث سير أليم وقع في وقت متأخر من ليلة البارحة، وأدى إلى وفاة عامل في سنيم كان في طريقه من مكان العمل إلى المنزل.لم تغب بطبيعة الحال شوارع العاصمة نواكشوط عن المشهد، حيث أطل علينا أحد شوارع لكصر في اليوم نفسه بحادث سير من تلك الحوادث التي تكثر على شوارع العاصمة. مراهقون يدهسون شابا لا ذنب له، إلا أنه كان في المكان الخطأ، أي أنه كان على طريق أولئك الشباب المتهورين، الذين دهسوه فأردوه قتيلا. هذا حادث سير آخر لم ينشر عنه رغم أنه وقع في العاصمة نواكشوط، وهذا مما يُظهر أن الكثير من حوادث السير المميتة لا يُنشر عنها.
لماذا لا يتنافس السائقون في حماية أنفسهم وحماية الركاب؟
من المؤكد أن أسباب حوادث السير عديدة ومتنوعة، فمن أسبابها بطبيعة الحال تهالك الطرق وعدم صيانتها، وتهالك الطرق لا يؤدي فقط إلى حوادث سير، بل زيادة على ذلك يؤدي إلى إتلاف سيارات المواطنين، وإحداث نقص كبير في أعمارها الافتراضية، وهذا يعني خسائر اقتصادية كبيرة للأفراد وللدولة. كما أن تهالك الطرق يؤدي أيضا إلى مشقة كبيرة لسالكيها، ثم إنه في النهاية يشكل مظهرا لا يليق بدولة تحترم نفسها، فليس من اللائق أن تكون بعض مقاطع طرقنا متهالكة في العام 2025، وحتى في العاصمة نواكشوط فإننا نجد مقاطع متهالكة على شوارع رئيسية في أرقى أحياء العاصمة.
كل ذلك صحيح، وهذا يُشرّع لنا أن ننتقد كل الحكومات المتعاقبة على تهالك الطرق وعدم صيانتها، ليس بمقال واحد فقط، بل بسلسلة من المقالات. ولكن، ومع ذلك، فإن الموضوعية تقتضي التنبيه إلى النقاط التالية:
1 ـ يمكن القول إن وضعية طريق الأمل في هذه الفترة هي من أحسن الوضعيات التي عرفها هذا الطريق خلال العقود الماضية، ومع ذلك - ولتسجلوا هذه المفارقة الأولى- فإن حوادث السير المميتة على هذا الطريق قد زادت ولم تنقص.
2 ـ منذ سنوات وطريق روصو في حالة جيدة جدا، وذلك بعد تهالك دام لسنوات، ولكن، وهذه هي المفارقة الثانية، فإن حوادث السير المميتة التي سُجِّلت على هذا الطريق في سنوات جودته، تفوق بكثير حوادث السير المميتة التي سُجِّلت عليه في سنوات تهالكه.
3 ـ اطلعت مؤخرا على إحصائية نشرها أحد المتابعين لحوادث السير على طريق (شوم – ازويرات)، فذكر فيها أن هذا الطريق شهد 25 حالة وفاة منذ تعبيده في عام 2018، وتحدث صاحب هذه الإحصائية عن جودة هذا الطريق، وأنَّه شُيِّد وفق المعايير الدولية للسلامة الطرقية. المفارقة هنا، وهذه هي المفارقة الثالثة والأكثر صدمة، أن هذا الطريق لم تُسجّل عليه حالة وفاة واحدة في حادث سير قبل تشييده في عام 2018!
قد لا تكون هذه الأرقام الأخيرة أرقاما رسمية، ولكن مع ذلك يمكن أن يُستأنس بها، فشواهدها كثيرة، فتشييد الطرق وترميمها يُغري دائما السائقين بزيادة السرعة، مما قد يتسبب في المزيد من الحوادث المميتة.
إن تشييد الطرق وترميمها إذا لم تصاحبه صرامة قوية في مراقبة السرعة، وإلزام السائقين بالتقيد بإجراءات السلامة الطرقية، وإذا لم تُصاحبه كذلك حملات توعوية جادة للسائقين، فإنه قد يتحول إلى كارثة. والحقيقة أن القطاعات الحكومية والأمنية المعنية مقصرة كثيرا في الرقابة على السائقين، وخاصة على مستوى السرعة والحمولة الزائدة، ومقصرة أكثر في توعيتهم بأهمية التقيد بإجراءات السلامة المرورية.
هناك تقصير كبير في أداء القطاعات الحكومية المعنية بالسلامة الطرقية، ونحن في حملة معا للحد من حوادث السير أدرى من غيرنا بذلك التقصير وأكثر إحاطة به، بل إننا ضحية لذلك التقصير، ولكن، ومهما كان تقصير الجهات الرسمية، فإن ذلك لا يبرر للسائقين أن يزهقوا أرواحهم وأرواح غيرهم من خلال القيادة بسرعة مفرطة.
إن السائق الذي يقرر أن يقود سيارته بسرعة معقولة، لن يتعرض على الأرجح لحادث سير، وإن تعرض لحادث سير، فإن الكلفة البشرية والمادية لذلك الحادث لن تكون ثقيلة، وتبقى الوسيلة الأنجع لحماية أنفسنا من مجازر الطرق، في كل الأوقات وفي كل الظروف، هي القيادة بسرعة آمنة، والتقيد بكل إجراءات السلامة الطرقية، وهذه الوسيلة ستبقى فعالة، حتى وإن استمرت الحكومات في تقصيرها في مجال تشييد الطرق وصيانتها، وفي تفعيل نقاط التفتيش، وضبط رخص القيادة، وإلى غير ذلك من المهام التي تقع مسؤوليتها على الجهات الرسمية حصرا.
علينا كسائقين أن نفعل دائمًا ما يمكننا فعله حماية لأنفسنا، وحماية سالكي الطرق من حولنا، ويُعد ضبط السرعة هو أهم شيء يمكننا القيام به لتحقيق تلك الحماية، ولنتذكر دائما أن السرعة يتحكم فيها أولا وأخيرا سائق المركبة، على العكس من وضعية الطريق، وتفعيل نقاط التفتيش، وإصدار رخص القيادة، وإلى غير ذلك من الأمور التي تتحكم فيها الحكومة حصرا.
فلنتنافس إيجابيا فيما نتحكم فيه، ونقدر عليه، أي نتنافس في التقيد بالسرعة وضبطها على مستوى آمن أثناء القيادة، حماية لأنفسنا ولغيرنا، وهذا أمر متاح لكل واحد منا، ولا ينقصنا لتنفيذه إلا أن نقرر ذلك. وهذا بالضبط هو ما جعلنا في حملة معا للحد من حوادث السير نجمع التوقيعات على التزام طوعي وعلني بسرعة لا تتجاوز 100 كلم في الساعة، مهما كانت درجة الاستعجال، وهنا لابد وأن نشكر كل أولئك الذين بادروا بتوقيعه من علماء ووزراء سابقين ونواب وموظفين وفاعلين خصوصيين وكتاب ومدونين ونشطاء في المجتمع المدني، وأن أشكر بشكل خاص القيادات في نقابات السائقين وكل السائقين المهنيين الذين وقعوه.
إن ضبط السرعة أثناء القيادة هو أمر متاح لكل واحد منا، فلنلتزم به حفاظًا على سلامتنا وسلامة غيرنا، وبعد أن نلتزم بهذا المتاح، حُقَّ لنا بعد ذلك ـ بل وجب علينا بعد ذلك ـ أن نطالب الحكومة بالقيام بواجبها في مجال السلامة الطرقية، وهو واجب لا شك أنها قصَّرت فيه كثيرا في الماضي، وما تزال تقصر فيه حتى اليوم.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل