
يُعد اعتراف بعض الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية تحولًا نوعيًا في المواقف الغربية التقليدية من الصراع العربي-الإسرائيلي، ولا سيما تلك الدول المعروفة تاريخيًا بدعمها الثابت لإسرائيل سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا. يثير هذا التحول تساؤلات جوهرية حول دوافعه الحقيقية، وسياقاته التاريخية، وتوقيته السياسي، ومدى تأثيره الفعلي على مسار القضية الفلسطينية من جهة، وعلى شرعية الكيان الإسرائيلي من جهة أخرى. وفي ضوء تعقيدات العلاقة بين أوروبا، وإسرائيل، والعالم العربي، تأتي أهمية تفكيك هذا الموقف وقراءته ضمن إطار أشمل يتجاوز البُعد الإنساني أو القانوني الظاهري، نحو الفهم الاستراتيجي العميق لما يحمله من رسائل ضمنية وتحولات محتملة في النظام الدولي.
أولًا: الخلفية التاريخية والدور الأوروبي في تأسيس "إسرائيل"
لا يمكن فصل الموقف الأوروبي الحالي عن الإرث الاستعماري والتاريخي لأوروبا في المنطقة. فقد ساهمت بريطانيا وفرنسا بصورة مباشرة في رسم خريطة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، وكان وعد بلفور (1917) والانتداب البريطاني على فلسطين من أبرز الأدوات التي مهدت الطريق لقيام "دولة إسرائيل" عام 1948.
ويُذكر أن الصهيونية كفكرة سياسية نشأت في أوروبا، على يد تيودور هرتزل، في سياق أوروبي معادٍ للسامية، لكنه استغل هذه العداوة لتحويل اليهود من "أقليات مزعجة" إلى مشروع وظيفي يخدم المصالح الاستعمارية في قلب العالم الإسلامي. فتمّ "زرع" الكيان الصهيوني في فلسطين ليس فقط كملاذ لليهود، بل كأداة لضمان استمرار الهيمنة الغربية، وتحقيق توازن قوى يضمن تحجيم النهوض العربي والإسلامي المحتمل.
ثانيًا: التوقيت السياسي ودوافع الاعتراف الأوروبي
يأتي الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية في توقيت بالغ الحساسية، على خلفية المتغيرات التالية:
1. تآكل الشرعية الأخلاقية والسياسية لإسرائيل:
الجرائم الموثقة في غزة، وانتهاكات حقوق الإنسان، والانحراف العلني نحو الفاشية والعنصرية، كلها عوامل ساهمت في تراجع صورة٧ "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".
تقارير دولية، وتحقيقات جنائية، أبرزها في محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية، باتت تتحدث بوضوح عن جرائم حرب وإبادة جماعية.
2. التحولات داخل الرأي العام الأوروبي:
تنامي التأييد الشعبي للحقوق الفلسطينية، خصوصًا بين الأوساط الشبابية والجامعية والنقابية، وهو ما انعكس في الضغوط السياسية الداخلية على حكومات تلك الدول.
إدراك الشعوب الأوروبية لكون إسرائيل أصبحت عبئًا أخلاقيًا واستراتيجيًا لا يمكن الدفاع عنه بنفس المنطق السابق.
3. الاعتبارات الاستراتيجية بعيدة المدى:
خشية أوروبا من انفجار أوسع في الشرق الأوسط بسبب التصعيد المستمر، مما يهدد أمن الطاقة، والهجرة، والعلاقات مع العالم الإسلامي.
محاولة استباق ما يبدو "تحولًا محتملاً" في النظام الدولي، حيث تزداد مؤشرات أفول الهيمنة الأمريكية، وصعود قوى بديلة (الصين، روسيا، تحالفات الجنوب العالمي)، ما يفرض على أوروبا تبني سياسات أكثر "اتزانًا".
ثالثًا: هل الاعتراف الأوروبي محاولة لسحب الشرعية من إسرائيل؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن اعتراف هذه الدول الفلسطينية هو موقف مؤيد للحقوق الفلسطينية، لكن تحليلًا أعمق يكشف عن أهداف مركبة:
تفريغ الاعتراف من مضمونه الحقيقي: معظم هذه الاعترافات تفتقر إلى تبعات عملية، مثل فرض العقوبات على الاحتلال، أو تغيير طبيعة العلاقات السياسية والأمنية مع إسرائيل. لذا، يُمكن أن يُفهم كـ"إجراء رمزي" يهدف إلى احتواء الغضب الشعبي.
تثبيت حل الدولتين في مقابل تصفية القضية: من خلال الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967 دون اشتراط تفكيك المستوطنات أو ضمان حق العودة، يتم تمرير تصور ناقص للدولة الفلسطينية، لا يتجاوز كونه كيانًا منزوع السيادة. وهذا قد يُستخدم كورقة ضغط على الطرف الفلسطيني للقبول بـ"صفقة الأمر الواقع".
تجديد الشرعية للكيان الإسرائيلي عبر "التوازن": تعتقد بعض النخب الأوروبية أن الاعتراف بفلسطين قد يعيد بعض التوازن الأخلاقي للغرب، ويمنع اتهامه بالانحياز الكامل لإسرائيل، مما يضمن بقاء إسرائيل ضمن المنظومة الغربية دون تعرضها للعزلة.
رابعًا: الدور اليهودي في كشف محدودية المشروع الصهيوني
مفارقة مثيرة للانتباه، أن بعض أبرز التوقعات بانهيار إسرائيل جاءت من داخل الفكر اليهودي نفسه، ومن باحثين ومفكرين يهود:
الباحث الإسرائيلي أري شبيت تحدث عن "فشل المشروع الصهيوني في التعايش مع محيطه".
الجنرال أميتاي إيلون أشار منذ سنوات إلى أن إسرائيل قد تنهار من الداخل بفعل التناقضات العرقية والدينية والاجتماعية.
معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) أصدر تقارير تتحدث عن سيناريوهات خطيرة تتعلق بانهيار الجبهة الداخلية وضعف قدرة الردع.
هذه التنبؤات لا تمر دون ملاحظة في الدوائر الأوروبية، التي بدأت تعيد حساباتها بشأن رهاناتها الاستراتيجية طويلة الأمد.
خامسًا: البُعد الحضاري للصراع وإرث الإمبريالية
لا يمكن إنكار أن المشروع الصهيوني خدم لقرنٍ من الزمن الرؤية الإمبريالية الأوروبية في إبقاء العالم الإسلامي في حالة تفكك وصراع دائم. وقد كان زرع إسرائيل جزءًا من "تصفيات حساب" حضارية بين أوروبا والإسلام، منذ الحروب الصليبية وحتى الحقبة الكولونيالية.
لكن اليوم، مع انكشاف فشل المشروع الصهيوني في فرض حله النهائي، وتزايد مؤشرات المقاومة والصمود الفلسطيني، بدأت النخب الأوروبية تتساءل:
هل ما زالت إسرائيل مشروعًا وظيفيًا يخدم مصالح الغرب؟
أم أنها باتت عبئًا أخلاقيًا واستراتيجيًا يجب التخلص منه تدريجيًا؟
خاتمة: بين الرمزية والواقعية السياسية
يبقى الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية خطوة إيجابية في المظهر، لكنها تظل محدودة الأثر ما لم تترافق بإجراءات فعلية تلجم الاحتلال، وتعيد التوازن إلى الموقف الدولي. غير أن الأهم من ذلك، هو ما تعكسه هذه الاعترافات من تحولات عميقة في الوعي الغربي، وإدراك متزايد بنهاية مرحلة وشيكة من الصراع، قد لا تكون لصالح المشروع الصهيوني كما خطط له مؤسسوه.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية تعزيز الحضور الفلسطيني على الساحة الدولية، والاشتغال على تفكيك منظومة "الشرعية الزائفة" التي تم منحها لإسرائيل طيلة العقود الماضية، مستفيدين من هذا التحول الأوروبي كنافذة استراتيجية لا تُهدَر.