هل سيخرج المفسدون من تقرير محكمة الحسابات سالمين غانمين؟

ثلاثاء, 2025-10-14 09:44

قبل أيام كتبتُ هذا المنشور: "كان من المهم أن تنظم محكمة الحسابات مؤتمرا صحفيا بعد إصدار تقريرها، فتوضح للرأي العام ما كان من أخطاء في التسيير، وما كان من شبهات فساد. 

عموما، من الضروري اتخاذ إجراءات صارمة ضد من شملهم التقرير، من خلال عقوبات إدارية بحق من أخطأ، وإحالات قضائية ضد من تحوم حوله شبهات فساد." انتهى المنشور...

ما زال هذا هو رأيي، ولم يتغير حتى الآن، ومع ذلك، هناك إيضاحات لابد من تقديمها تعليقا على النقاش الذي أثاره صدور التقرير ونشره، وكذلك تعليقا على المؤتمر الصحفي أو النقطة الصحفية التي نظمها رئيس محكمة الحسابات، والتي زادت من حدة النقاش وأثارت من الأسئلة أكثر مما أجابت عليه.

1. غياب التواصل الأولي:

إن عدم تنظيم نقطة صحفية عند صدور التقرير سمح لقراءات سريعة وغير دقيقة بالهيمنة على المشهد الإعلامي، فبالغت تلك القراءات في تضخيم الأرقام وحجم الفساد الوارد فيه، فأوصلتها  إلى أكثر من 400 مليار أوقية! هذا رقم يفوق ميزانية المؤسسات التي شملها التفتيش، ويضاعف عشر مرات حجم "فساد العشرية"، أي أننا ـ وفق تلك القراءات ـ أمام فساد يعادل فساد عَشْر عشريات!

2. الردّ المبالغ فيه:

ربما كانت تلك القراءة التضخيمية هي ما دفع برئيس محكمة الحسابات إلى الخروج الإعلامي مساء أمس، ليقدم قراءة مناقضة لها تماما، فبالغ هو الآخر في الاتجاه المعاكس، حين أكد أن كل ما ورد في التقرير مجرد "أخطاء تسيير" لا أكثر، وأن التقرير لا يتضمن أي فساد. وهكذا انتقلنا في طرفة عين من المبالغة في الإدانة إلى المبالغة في التبرئة!

3. الواقع يغني عن التقارير:

المواطن الموريتاني اليوم لا يحتاج إلى تقرير من محكمة الحسابات أو غيرها ليقتنع بوجود الفساد. فهو يراه ماثلا أمامه في سوء الخدمات العمومية من ماء وكهرباء وتعليم وصحة... وهذه المظاهر وحدها كافية لإثبات أن هناك خللا عميقا في تسيير موارد البلد.

4. غياب المتابعة والمساءلة:

ما يقلق المواطن أكثر هو غياب المحاسبة. والتقرير الأخير لم يتضمن أي إشارة إلى الإجراءات المتخذة بشأن التقرير السابق الذي غطى سنوات 2019 و2020 و2021. هذا الغياب هو أقوى ثغرة في التقرير الحالي، وهو يعزز  من مخاوف الإفلات من العقاب.

إن هناك خوفا كبيرا من أن ينجو المفسدون في التقرير الحالي أو المخطئون في التسيير إذا شئتم من العقاب، كما  نجا سلفهم في التقرير السابق، وقد زادت تصريحات رئيس المحكمة التي نفت وجود أي فساد في التقرير الحالي من تلك المخاوف.

5. قوة الانطباع الأول:

ما فات رئيس المحكمة هو أن الانطباعات الأولى التي تنتشر لدى الرأي العام تتحول سريعا إلى "حقائق" يصعب تصحيحها حتى وإن كانت مغلوطة. لذلك فإن تأخر تواصل محكمة الحسابات مع الرأي العام كان خطأ جسيما لم يعد بالإمكان تدارك أضراره الآن.

6. التباين الحاد في القراءات:

بين قراءة تضخِّم الأرقام وتوصلها إلى مئات المليارات، وقراءة تنفي وجود فساد مطلقا، تبدو الحاجة ماسة إلى قراءة مهنية محايدة. ومن بين كل التحليلات المنشورة، لم أجد قراءة أقرب إلى المهنية من تلك التي قدمها الخبير المحاسبي مولاي كواد، وهو مفتش دولة مساعد سابق.

7. قراءة الخبير مولاي كواد:

قدّر الخبير في مقال نشره من جزأين، أن التقرير يتضمن:

60% أخطاء تسيير؛

23% ناتجة عن هشاشة النظم وضعف الكفاءة الإدارية؛

17% تمثل شبهات فساد أو أفعالا يمكن أن تفضي إلى جرائم بعد التحقيق.

8. دعوة لجلسة نقاشية:

بعد اطلاعي على ما نشره الخبير المحاسبي، تواصلت معه ودعوته إلى ندوة نقاشية كنت أنوي تنظيمها لتقديم قراءة موضوعية واحترافية تُخرجنا من القراءتين المتناقضتين: تلك التي تُضخِِّم الفساد في التقرير، وتلك تُنكره كليا. لكنه للأسف خارج البلد حاليا، مما سيؤجل عقد الجلسة النقاشية.

9. ما العمل الآن؟

نحن بحاجة إلى موقف متوازن، ورأي عام وطني متماسك  يطالب بـ:

- إحالة الملفات المشبوهة (17%) إلى القضاء بعد تعميق التحقيق؛

- اتخاذ عقوبات إدارية صارمة ضد المسؤولين عن الأخطاء التسييرية (60%)، لأن سوء التسيير ـ حتى دون نية إجرامية ـ يبدد أموال الشعب ويكشف ضعف الأهلية الإدارية؛

- إصلاح إداري شامل لتفادي الأخطاء البنيوية (23%) الناتجة عن هشاشة النظم.

10. نقطة وحيدة تحسب لرئيس المحكمة:

ربما النقطة الوحيدة التي كسبها رئيس المحكمة في مؤتمره الصحفي هي دفاعه عن نفسه، وذلك عندما تحدّى الجميع أن يأتوه لا بملف فساد، بل حتى بخطأ تسييري واحد ارتكبه خلال مساره المهني.

ختاما،

أعلم أن هذا المقال لن يرضي أيا من الطرفين: لا من يبالغون في تقدير حجم الفساد في التقرير ، ولا من ينفون وجوده كليا فيه، وأتوقع أن أتلقى سهام النقد من كليهما. ومع ذلك، تبقى هذه قناعتي، وسأتمسك بها حتى يثبت لي أحد الطرفين عكسها، ولا أظن أن فيهما من يستطيع إثبات ذلك.

ما يقلقني حقا هو بوادر معركة غبية تلوح في الأفق بين الرأي العام الوطني وأجهزة الرقابة. وإذا ما اندلعت هذه المعركة، فإن الخاسر الأول سيكون من يحارب الفساد، بينما سيخرج المفسدون سالمون غانمون، ولسان حالهم يقول اللهم اضرب بعضهم ببعض ( الراي العام والأجهزة الرقابية)، واخرجنا من معاركهم العبثية سالمين غانمين.

قلتُها سابقا وأكررها الآن:

 الفساد ليس خصما ضعيفا، ولن ننتصر عليه إلا بتشكيل حلف وطني واسع لا تقوده غوغاء مواقع التواصل، ولا يجامل المفسدين، مهما علت مناصبهم أو رُتَبهم.

المقلق أكثر هو أني لا أرى بوادر تلوح في الأفق لتأسيس ذلك الحلف.

حفظ الله موريتانيا...

محمد الأمين الفاضل 

[email protected]