البرامج الاجتماعية في موريتانيا... حين تتحول التنمية إلى ريع سياسي

أحد, 2025-10-19 07:32
حمادي سيدي محمد آباتي

أنشأت الحكومات الموريتانية المتعاقبة سلسلة من البرامج والمفوضيات تحت لافتة «مكافحة الفقر» و«تعزيز التضامن الاجتماعي»؛ من مفوضية الأمن الغذائي إلى مشروع أمل، مرورًا بوكالة تآزر بمكوناتها المتعددة (داري، الشيلة، اتويزه...).لكن رغم هذا الزخم اللفظي والإنفاق المعلن، ما زال الفقر يصرخ من الأزقة، والجوع يمد يده عند إشارات المرور، والمرض يفتك بمن لا يملكون حق الدواء.هنا يبرز السؤال المؤلم: هل كانت التنمية حقًا هدفًا أم مجرد شعار؟

جعجعة بلا طحين

لا يحتاج المواطن الموريتاني إلى تقارير رسمية ليدرك أن برامج التنمية لم تمس واقعه إلا في حدود الصور والبيانات.يكفي أن تمرّ في شوارع نواكشوط أو نواذيبو أو في أحزمة الفقر المسماة “الكرزات”، لترى الفوارق الطبقية الفادحة ومظاهر العوز التي تعصف بالكرامة الإنسانية.أما من يجول في الأرياف والبوادي فسيكتشف أن البساطة لم تعد عنوانًا للرضا، بل ستارًا يخفي فقرًا مدقعًا وعجزًا عن تلبية أبسط الحاجات.

حين تتحول المشاريع إلى وسيلة للاغتناء

تحولت البرامج الاجتماعية إلى منصات ريعية بامتياز، استفادت منها شبكات ضيقة من أبناء النافذين والإقطاعيين الجدد.لم تُبن هذه البرامج على إحصاءات دقيقة للمستفيدين، ولم تخضع لتقييم علمي أو مساءلة مالية.كانت أقرب إلى "إعلانات سياسية" تُسوّق للسلطة، لا إلى مشاريع تنموية حقيقية تغيّر الواقع.

التنمية الغائبة: رؤية بديلة ممكنة

لو أن الحكومة اختارت طريقًا آخر — يقوم على إحصاء علمي دقيق للأسر الفقيرة، وتخطيطٍ قرويٍّ متكاملٍ يربط السكن بالزراعة والتعليم والخدمات الأساسية — لتبدّل المشهد تمامًا.فمشروع واحد متكامل في قرية نموذجية، يضم سدًا زراعيًا، ومدرسةً بكفالةٍ غذائيةٍ، وسكنًا للمعلمين، ومخزنًا تموينيًا تعاونيًا، قد يغيّر حياة مئات الأسر أكثر من عشرات المشاريع المجزأة عديمة الجدوى.ذلك هو مفهوم التنمية الذي يبني الإنسان قبل الجدار.

الدولة العميقة و"تمييع" التعليم

يبدو أن فشل البرامج الاجتماعية مرتبط ببنية أعمق: هيمنة الدولة العميقة التي تحتكر التعليم الجيد والفرص النوعية لأبنائها.فبينما تُرفع رواتب القضاة والنواب وكبار الضباط بذريعة “الأهمية”، تبقى رواتب المعلمين جامدة منذ عقود.أما تبرير ذلك بكثرة عددهم فليس سوى ذريعة لإبقاء التعليم العمومي في حالة وهنٍ دائم، تُمكّن أبناء النخبة من الهيمنة على المدارس الخاصة والبعثات الأجنبية.وهكذا يُعاد إنتاج التفاوت الاجتماعي تحت لافتة “إصلاح التعليم”.

التخطيط الغائب... والفقر المصنوع

إن غياب الرؤية العلمية في التخطيط الاجتماعي جعل الفقر في موريتانيا نتيجة صناعة سياسية لا قدرًا طبيعيًا.فالفقراء ليسوا ضحايا الصحراء وحدها، بل ضحايا بنية إدارية وسياسية تعيد إنتاج الحرمان عبر البيروقراطية والمحسوبية.إنها سياسة إبقاء المجتمع في حالة عوز دائم، كي تبقى فئة محدودة ممسكة بمفاتيح المنح والإعانات.

نحو تنمية تستعيد معناها

الحل ليس في تعدد الأسماء والبرامج، بل في تحرير مفهوم التنمية من قبضة الريع السياسي.ينبغي أن تتحول الدولة من مانحٍ للإعانات إلى شريك في بناء قدرات المجتمع، وأن تكون العدالة الاجتماعية والمساءلة ركيزتين لا شعارات.التنمية ليست صدقة تُمنح، بل عقد اجتماعي يعيد للإنسان كرامته وللوطن معناه.

خاتمة

تجربة موريتانيا مع مشاريع “أمل” و“تآزر” و“الأمن الغذائي” تُظهر أن التنمية حين تُفرغ من مضمونها تتحول إلى وسيلة للهيمنة لا للتحرر.وما لم تُبنَ البرامج الاجتماعية على أسس علمية، وإرادة سياسية صادقة، فإن الجعجعة ستستمر، والطحين سيظل غائبًا عن موائد