
د. شذى صخر
تبدو وثيقة الأمن القومي الأميركي لعام 2025 لحظة مركزة تتجسد فيها التحولات الطويلة للقوة الأميركية، معلنة ضمنيًا انتقال الولايات المتحدة من الإمبراطورية الليبرالية نحو نموذج أقرب إلى القومية الإمبريالية، قائم على المصالح الصلبة والمجال الحيوي والحدود الحضارية، وعودة لما بعد الحداثة إلى منطق ما قبل الحداثة حيث تتصرف الدول عبر الهيبة العسكرية وهاجس السيادة وحماية الذات.
التحول الأبرز فلسفي، إذ تحولت الدولة التي بشرت بنموذج ليبرالي عالمي إلى خطاب يحذر من الهجرة والتفكك الداخلي وسلاسل التوريد الأجنبية، ليصبح الأمن مرادفا للاقتصاد والحدود لا للقيم والهيمنة الناعمة، في انعكاس يشبه ظروف أوروبا عام 1914 حين واجهت الإمبراطوريات التغيير الاقتصادي والتقني بتعزيز القوميات وإعادة رسم المجال الأمني.
مقارنة وثيقة 2025 بالسابقة تكشف تناقضا جذريا بين عالمين: أحدهما آمن بقوة الهيمنة الأميركية، والآخر حيث الزمن يتحرك دونها؛ فوثيقة 2017 تحدثت عن تنافس القوى الكبرى لكنها حافظت على خطاب مؤسسي يربط الأمن بالقيم والتحالفات، أما وثيقة 2022، فقد شددت على قيادة أميركا للنظام الدولي ومواجهة الأنظمة الاستبدادية، وجاءت وثيقة 2025 لتتخلى عن كل ذلك، وتعرف الدولة بوصفها كيانا مصلحيا له حدود، واقتصاد، وهوية، ومجال يدافع عنه.يمثل فكر ترامب الاقتصادي امتدادا مباشرا لمنطق وثيقة الأمن القومي 2025، إذ يرى الاقتصاد أداة أساسية للأمن والسيادة الوطنية، حيث تصبح حماية المصالح الأميركية أولوية مطلقة، سواء من خلال فرض الرسوم الجمركية، إعادة الصناعات الاستراتيجية إلى الداخل، أو تقليص الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية.
هذه السياسات ليست مجرد إجراءات تجارية، بل خطوات استراتيجية لتعزيز القوة العسكرية والسياسية عبر الاستقلال الاقتصادي، كما أن الاستثمارات الخارجية تقيم وفق قدرتها على تعزيز الأمن القومي، وليس وفق أهداف إيديولوجية، ما يوضح انتقال الولايات المتحدة من قوة مهيمنة تفرض القيم إلى دولة تحمي ذاتها أولا، وتضع مصالحها الاقتصادية في قلب سياستها الخارجية.


