
لم يعدم المرجفةُ في زمن الخلافة الراشدة وسيلةً لافتعال المآخذ وإثارة الغبار حول مجهّز جيش العُسرة، عثمان بن عفان رضي الله عنه، حتى استدارت دوائر التحريض وتجييش الدهماء عليه، فتهاوت هيبة الشرع أمام غوغاءٍ خُدِعوا، وانتهى الأمر إلى أن سُفكَ دمُ الخليفة على مصحفه، فاندلعت فتنةٌ ما تزال الأمة تصطلي بأوارها إلى يوم الناس هذا.
كانت تلك الحادثة مثالاً مبكراً على ما تصنعه الكلمات حين تتجاوز وظيفتها في البيان لتغدو معاول هدم، تُهيّج العامة، وتُربك النظام، وتطعن الدولة من خاصرتها الرخوة.
ومنذ ذلك العهد، ما فتئت "المرجفة" في كل طور من أطوار التاريخ تتخذ من الشائعة سلماً للفتنة، ومن المزايدة وسيلةً للتمكين بين الصفوف، حتى كان لها في كل عصر سهم، وفي كل دولة ثلمة.
فقد عرفت الأمة نكبات كبرى، لم تكن قوة الخصوم وحدها سبباً فيها، بل لعبت فيها ألسنةٌ منفلتة دور الطابور الذي يفتح الثغرات من الداخل؛ من إشعال نيران التمرد في الكوفة، إلى بثّ الشكوك التي أجهضت محاولات الإصلاح في عصور لاحقة، وصولاً إلى الفتن التي مزّقت وحدة المسلمين تحت شعارات ظاهرها الحق وباطنها الدمار.
وعبر التاريخ الوسيط والحديث، لم تكن الدولة الإسلامية في أطرافها بمنأى عن هذا النمط من الهزّات؛ فكم رُفعت شعارات البراءة وهي تحمل في طياتها بذور الانقسام، وكم أُريد بالدعوات الصاخبة "نقدٌ بنّاء" فإذا بها ولائم للخراب، يحضرها كل عابثٍ يبحث عن ثغرة، وكلّ متربص ينتظر لحظة الضعف.
ولم تكن الدولة الموريتانية الحديثة استثناءً من هذا القانون التاريخي الصارم؛ فقد جرت عليها منذ نشأتها موجاتٌ من البلابل التي غذّتها المرجفة، كلما لاح في الأفق استقرار أو بدا للدولة مسارٌ واضح.
فكم أُطلقت دعواتٌ ظاهرها المطالبة بالإصلاح وجوهرها التشكيك في مؤسسات الدولة، وكم امتلأت الساحة بأصواتٍ تهدم أكثر مما تبني، وتنفخ في هشيم الخلاف، وتستثمر في إثارة الخصومات لتوظيفها سياسياً أو اجتماعياً.
وكان من أبرز المحطات التي تجلّى فيها هذا المسار ما رافق حوادث حرق الكتب المالكية، تلك المحنة التي كانت محاولة لزعزعة المرجعية الدينية التي قامت عليها الدولة منذ التأسيس، ومحاولة لإشعال شقاقٍ يتجاوز الفعل نفسه إلى محاولة إعادة صياغة الهوية الفقهية والاجتماعية للبلاد.
ثم جاءت حوادث كشائعة حرق المصحف في نواكشوط، وما أثارته من صخبٍ وبلبلة، لم يكن المقصود منها الاعتداء على المصحف ذاته فقط، بل كانت ــ في عمقها ــ محاولة لدفع المجتمع إلى هاوية الاستقطاب، وتوتير العلاقة بين الدولة ومحيطها الاجتماعي والديني.
كانت رسالة خطيرة مضمونها: "إن بقاء النظام مرهون بقدرته على حماية رموز الأمة"، والغاية منها اختبار منسوب الثقة بين الدولة والناس، ودفع مؤسساتها إلى مربّعات الارتباك.
وفي كل مرة، كان المرجفون هم أول من يشعل النار، وهم أول من يصرخ مستنجداً من الدخان الذي صنعته أيديهم، ليستمرّوا في تقديم أنفسهم "محذّرين" مما افتعلوه، و"منقذين" مما دفعوا إليه، حتى تتردد الدولة بين التجاوب والردع، وبين التطمين والحزم.
والمشكلة الكبرى اليوم تكمن في سؤالٍ لا يعدم جزء من الخطورة وهو: إلى أي مدى يمكن لنظامٍ سياسي أن يستمر بينما بعض السُّوسُ ينخر داخله..؟
كيف يُمكن لدولة أن تحافظ على اتزانها بينما تُترك أصوات التخريب تنمو على هامشها، تُربك القرار، وتزرع الشك، وتدفع المواطنين إلى فقدان الثقة في المؤسسات..؟
لقد أثبت التاريخ أن التمكين للمرجفين، أو التغاضي عنهم، أو محاولة استرضائهم، كان دائماً بوابةً واسعة للفوضى؛ فالدول لا تسقط بضربة من الخارج، بل بسلسلة ثقوب صغيرة تُفتح في الداخل حتى يتلاشى تماسكها.
وفي موريتانيا اليوم، تبدو الدولة أمام لحظة فارقة: إما أن تحسم أمرها في مواجهة هذا النمط من الفتن المتنقلة، أو أن تتركها تتضخم حتى تتحول من أصواتٍ هامشية إلى معاول مؤسسية تفتك بجسد النظام.
إن الخطر الأكبر يتجسد في تجاهل قدرات المرجفين على تفجير الهشاشة، وتحويل الاختلاف السياسي إلى مادة قابلة للاشتعال؛ فالدولة التي تتهاون في حماية هيبتها تصبح عُرضة لأن تُقاد ولو جزئياً من خارج بواباتها الرسمية.
أحمد ولد الدوه
إعلامي مهتم بالشأن السياسي


