
تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب، وفي لحظات التأمل. ولأنها لغة تتجاوز حدود الكلام، فقد حملت الموسيقى دائما قدرة فريدة على بناء الوجدان الجمعي وصياغة الهوية الثقافية للشعوب. وليست الموسيقى ترفا يمكن الاستغناء عنه، ولا الغناء زينة إضافية في حياة الشعوب. فمنذ أن عرف الإنسان الإيقاع، أدرك أن الصوت قادر على أن يحمل ما تعجز عنه اللغة: الفرح، الحزن، الاحتجاج، والرجاء.
ولهذا كانت الموسيقى دائما مرآة لروح المجتمع، تكشف حيويته وتعدّد أصواته أكثر مما تكشف أي مؤشر آخر.في حضارات الرافدين القديمة، كانت الموسيقى جزءًا من البنية الروحية والاجتماعية. تخبرنا الآثار السومرية والآشورية عن وجود آلات مثل القيثارة والعود، وعن احتراف موسيقيين كانوا يُعاملون باحترام، ويؤدّون أدوارا في الطقوس الدينية والاحتفالات الشعبية. وهذا دليل على أن الموسيقى لم تُعتبر يوما عنصرا هامشيا، بل كانت جزءًا من بنية المجتمع ووسيلة من وسائل الارتقاء بالوعي. وفي أرض الرافدين أيضا، لم تُولد الكتابة وحدها؛ بل وُلد معها الحسّ الجمالي الذي عبّرت عنه القيثارات السومرية والأناشيد التي رافقت طقوس الحياة. وعلى امتداد العصور الإسلامية،، لم تتوقف الموسيقى عن التطوّر رغم اختلاف المواقف تجاهها. فقد نشأت مدارس موسيقية عظيمة من الأندلس إلى بغداد، وتألّق فلاسفة وأطباء مثل الفارابي وابن سينا في تحليل تأثير الموسيقى على النفس البشرية، معتبرين إيّاها علما له قوانينه وقدرته على ضبط انفعال الإنسان وتهذيب الروح.


