حين يطرق القضاء الباب… تنهض العصبيات من سباتها

خميس, 2025-12-11 13:29
محمد عبد الله ولد بين

تحليل سياسي لظاهرة الاحتماء بالهويات في مواجهة محاربة الفساديرفع الجميع اليوم شعار محاربة الفساد. لا يكاد خطاب سياسي أو برنامج حكومي أو منشور مدني يخلو من التأكيد على أن الفساد آفة تُهدر الثروة وتُعطل التنمية وتهدد دولة القانون. غير أنّ المشهد لا يلبث أن ينقلب رأساً على عقب ما إن يقترب القضاء من أي متهم بالفساد؛ عندها تتزاحم العصبيات القديمة على بوابات العدالة، وترتفع أصوات التضامن، ويغدو المفسد – فجأة – “مظلومًا” و“مستهدفًا” و“ضحية لمؤامرة” تقف خلفها أطراف مجهولة.

 *أولا: الأسطورة الجماعية… حين يصبح المفسد رمزًا* ما إن يعلن القضاء فتح ملف فساد، حتى تُسارع جماعات قبلية وفئوية ومناطقية إلى صناعة “أسطورة جماعية” حول الشخص المعني. فيُقدَّم للناس بصفته استثناءً أخلاقيا أو مظلوما تاريخيا أو مقاتلا من أجل العدالة

.سرعان ما تظهر مبررات متباينة:هذا لأنه حرطاني، وكأن المثول أمام القانون مشروط باللون.

وهذا لأنه شريف، وكأن الشرف جواز عبور فوق القضاء.

وذلك لأن أسرته ظلمها التاريخ، وكأن التاريخ يمنح صكا بالبراءة مهما كانت الجريمة.

وآخر لأنه من “دحا من الزمان”، وكأن القدم أو النفوذ تمنح حصانة ضد المساءلة.

وهكذا يتحول النقاش من سؤال قانوني إلى معركة هوياتية لا علاقة لها بالملف محل المتابعة.

ثانيا: منطق الجماعة بدل منطق الدولةفي هذه اللحظة تختفي الدولة كمؤسسات وتظهر “الدولة الموازية”:دولة القبيلة التي تختزل الفرد في انتمائه.دولة الفئة التي تُحوّل أي محاسبة إلى استهداف جماعي.

دولة العصبية التي تحوّل الجرم الفردي إلى “قضية شرف”.بهذا تتحول العدالة من مرجعية وطنية مشتركة إلى مرآة للهويات المتصارعة، فتضيع الحقيقة بين هتافات لا تهتم بما إذا كان الشخص مذنبا أو بريئا، بل تهتم فقط بـ“من ينتمي إليه”.

 *ثالثا: لماذا تتكرر الظاهرة؟* هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل لها جذور متعددة:

1. ضعف الثقة في مؤسسات الدولة يجعل الناس تلجأ إلى الانتماء الأول بدل الانتماء الوطني.

2. غياب الوعي المدني الذي يميز بين الفرد والجماعة.

3. تحويل الهوية إلى رأسمال سياسي توظفه نخب تبحث عن النفوذ لا عن العدالة.

4. استثمار المفسدين أنفسهم في العصبيات للهروب من المحاسبة، إذ يعرفون أن المجتمع الهش يسهل تضليله بمفردات الانتماء والوجدان. 

*رابعا: خطورة تبرير الفساد بالهويات* تبرير الفساد باللون أو النسب أو التاريخ لا يخدم إلا المفسدين أنفسهم.

فهو: ينسف مبدأ المساواة أمام القانون.يشجع الإفلات من العقاب.ويحوّل النسيج الاجتماعي إلى فسيفساء متناحرة.ويغلق الباب أمام بناء دولة حديثة تحترم القانون لا الأشخاص.فحين تحتمي القبيلة بالمفسد، فهي لا تحمي شرفها، بل تحمي الفساد من الشرف. 

*خامسا: نحو وعي جديد… يفرّق بين الهوية والعدالة* لا يمكن لمجتمع يريد بناء دولة حديثة أن يقفز فوق العدالة أو يلوّنها بألوان الهويات.المطلوب هو:أن نُعيد الاعتبار لمبدأ الفرد مسؤول عن أفعاله.وأن نؤسس لثقافة ترى أن المثول أمام القضاء ليس عارًا، بل واجبا.وأن نفصل بين الانتماء الاجتماعي والمسؤولية القانونية.

وأن نرفع شعارا واحدا:لا قبيلة فوق القانون، ولا فئة فوق الدولة.المعركة الحقيقية ليست بين القضاء والمتهمين، بل بين دولة المواطنة ودولة العصبية.وإذا لم يتحرر المجتمع من وهم أن الهويات يمكنها أن تمنح البراءة أو تصنع الحصانة، فلن تقوم للعدالة قائمة، ولن تنجح أي حرب على الفساد مهما صدقت النوايا.